يعتبر الفنان فنسان فان جوخ Vincent Van Gogh 1853-1890 من أعظم الرسامين قاطبة في جميع العصور ، ولد في بلدة ( زونديت ) بهولندا وكان وهو غلام صغير يميل إلى العزلة والتجوال وحيدا في الحقول وعلي ضفاف الأنهار يتأمل جمال الطبيعة في حب وصفاء نفسي ، وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أنقطع عن الانتظام في الدراسة وأعتمد علي نفسه في الاطلاع والقراءة كما أتقن لغات عدة كالفرنسية والإنجليزية إلى جانب لغته الأم الهولندية .
- في لوحة ذاتية من رسمه
رحل إلى مدينة ( لاهاي ) واشتغل هناك بفرع مؤسسة ( جوبيل ) وهي مؤسسة فنية مقرها الرئيسي في باريس تتعامل في بيع اللوحات فتم له خلال هذه الفترة الاطلاع علي أعظم النفائس الفنية لكبار الرسامين العالميين فاتسعت مداركه وصار علي فهم بما تحمله هذه الأعمال واللوحات من إبداع وما لها من قيم عالية .
- زهور الدفلة و كتاب يومياته ورسائله
هذا الفنان العبقري لم يكن يرسم كثيرا فقط بل كان يكتب أيضا بنفس الحرارة والتوهج كمًا هائلا من الرسائل والخواطر إلى شقيقه ( ثيو ) التي جُمعت في كتاب من ثلاثة مجلدات ( Cartas De Vangogh ) تضمنت آرائه في الرسم وفي النقد والمجتمع والمرأة وعن نفسه في اغلب الأحيان .
ومن وحي هذه الرسائل والكتابات الممتعة التي جادت بها قريحته الأدبية الخلاقة استضفته هنا في خلوة هادئة في مرسمي وملاذي الذي أسميه ( عش الحمامة ) كي أجري معه هذا الحوار غير المسبوق و المُتخيل.
الحوار
جاء إلى خلوة عش الحمام [1] بعد ساعة من الموعد المضروب بيننا معتذرا وملقيًا بتبعات هذا التأخير علي ازدحام حركة المرور في شوارع بنغازي ، والي خلل ميكانيكي مستوطن في أحشاء سيارته العتيقة ( الفولكس واجن ) التي ترتفع حرارتها كما يقول في مستهل كل مشوار مهما قصرت مسافته ، فلم أعبأ كثيرا بمثل هذه الحجج لأننا بتنا كفنانين لا نهتم ولا نكترث بالمواعيد وانضباطها .
- العجوز المهموم إحدى لوحاته التي قلما تنشر
سكبت في فنجانه قدرا من القهوة الجاهزة سلفا من الحافظة المعدة لذلك وعلي الفور أشعل لفافة من تبغه الرديء وجلس علي الكرسي المواجه للنافذة يرصد هطول الضياء وانكسارات الظلال التي تتصارع خارجها وحين انشغلت عنه بترتيب أوراقي وتقديم الأسئلة المسالمة أولا سمعته يدندن بمقطع من أغنية غير شائعة لواحدة من روائع مطربتنا الاستثنائية فيروز . وبرغم صوته المبحوح والأجش وحنجرته المصابة بالتهابات مزمنة إلا أن الكلمات وصلتني منه بوضوح تام :
راجع من صوب أغنية |
يا زمانًا ضاع في الزمن |
صوتها يبكي فأحمله |
بين زهر الصمت والوهن |
- المقهى الذي كان يتردد عليه قبيل قطع أذنه، أصبح الأن يحمل إسمه
عند ذلك التقطت منه خيط الكلام وطرحت علية السؤال الأول : أخبرني يا سيد فنسان فان جوخ ما هو بالضبط فن الرسم وما معني أن يكون الإنسان رساما ؟
إن فن الرسم يا ( فتحي ) هو بكل بساطة : الإنسان مضافا إلى الطبيعة ، والطبيعة هي الكون أو الوجود أو الواقع أو الحقيقة . هنا يأتي الإنسان الفنان ويقتنص منها المشاهد واللقطات ويقدم لها أو يحاول شروحا وتفسيرات وبعمله هذا لا نعرف ماذا كان الإنسان الرسام يفعل . أيصور الطبيعة أو الحقيقة أو يشوهها ويحرفها بل ليس مهما أن نعرف . وأنا مهما حاولت لن أستطيع إيجاد أي تعريف للرسم فالرسم هو أن تصنع لوحة يرتفع فيها ضجيج الألوان وصراخها بصخب لا مثيل له .
طيب .. بماذا تنصح رساما ناشئا ؟
الممارسة هي أساس وجوهر كل مزاولة إبداعية أو مهنية ولكي يصبح المرء رساما يكفي أن تكون لديه الرغبة في ذلك ويحاول إذ ليس أصعب علي المبتدئ من عدم تجاوب المتلقي مع أعماله كرسام لكن هذا الصد يجب أن يدفعه إلى مزيد من المحاولات والي مزيد من التصميم والتحدي والمجتمع أي مجتمع الهولندي أو العربي أو أي مجتمع آخر هذا المجتمع لا يرحم ولا يعطي فرصا لأحد علي طبق من ذهب إنما يجب الصراخ في وجهه عن طريق الاستمرار في الرسم فإذا لم يجد هذا الناشئ إعجابا لأعماله يكفيه أن يرسم لحبيبته أو لصديقه أو حتى لنفسه .
- عشاء البطاطا
في حياتك ( وأرجو المعذرة ) ذهبت روائعك أدراج الرياح .. أعني لم تجد أحدا يشتري منها شيئا ولدرجة أنك مرضت ومت من الجوع . والآن ها هي آثارك الفنية تباع بأرقام فلكية .. ما تعليل ذلك ؟
ليس هناك شيء أسمه لوحة بلا ثمن ، فإذا لم يأت ثمن اللوحة من الآخرين يكفي أن الرسام قد قبض الثمن مسبقا متمثلا في المتعة الحميمة التي يشعر بها عندما ينجز لوحة أو عندما ينظر إليها .
ما رأيك باليابانيين الذين تبين أنهم كانوا وراء الرفع الجنوني لأسعار لوحاتك وبعد حوالي مائة عام من وفاتك ؟
اليابانيون عنصر مميز فعلا وكأنهم آتون من خارج هذا الكوكب ، وأنا كنت أتوقف دائما ومليا أمام الرسم
الياباني وأجد فيه الكثير من الطفولة والعفوية إلى درجة البدائية . قد يكون ذلك دليل تأخر في ملاحقة ركب التطور أو قد يكون دليل أصالة إبداعية متناهية .
- حذاء فان جوخ في لوحة صامة
الصعوبات التي ملأت حياتك وخاصة المرض والفقر والجوع وعلي الأخص مرضك النفسي . هل أعاقك عن الرسم أو دفعك إليه ؟
أول الأمر كنت أكره مرضي لأنه ظل يذكرني باللؤم الذي واجهني به المجتمع أما في هذه اللحظة فلا مفر من عدم الاعتراف لأقول علي مسمع من جهاز التسجيل أني أحببت مرضي بطريقة شخصية وسرية جدا لأنني لولاه لما كنت رسمت شيئا أو لربما كنت رسمت القليل فقط .
الرسم يا ( فتحي ) كان وما يزال دوائي السري لمواجهة المرض وهناك في التاريخ رجال كثيرون فنانون ومبدعون كانوا مرضي ولم يبدعوا إلا من باب محاربة المرض بالإبداع . ففي تاريخكم الأدبي كعرب استنادا إلى ثقافتي المتواضعة في هذا المجال قرأت أن شاعركم الكبير بدر شاكر السياب ، قد عاني هو الآخر من أوجاعه المبرحة طوال ليله وساعات نهاره وكان لا يكف لحظة عن العطاء الجيد كما كان الألماني الوسيم لودفيك فان بيتهوفن يتألم كثيرا من صممه ومع ذلك أبدع رائعته المسماة ( السيمفونية التاسعة ) ضمن تناغم بديع ومناخات من الفرح والسعادة . فيا صديقي أنا لست مجنونا كما يشاع بل المجتمع هو المجنون ، الآخرون هم المجانين وجنون الآخرين هو الذي كان يجعلني أفقد أعصابي .
لكنك أمضيت فترات طويلة ومتعددة في المصحات النفسية !! .
ليس هنا أو هناك أو في أي مكان في العالم شيء أسمه ( مصحة نفسية ) هذه أكذوبة نمساوية أطلقها طبيب مريض وفاشل يدعي ( فرويد ) . إنها سجون ومعتقلات انفرادية والآخرون أعني خصومي تحديدا كانوا يكيدون لي المكائد ثم يسوقونني إلى تلك السجون التي تسميها بكل أسف : مصحات نفسية .
مهما يكن فانك رسمت معظم وأهم لوحاتك أثناء وجودك في منتجع ( سان ريمي ) القريب من أرل . أليس كذلك ؟ أم أنك تعترض علي تسميته هو الآخر بالمنتجع .
دعك الآن من الشكليات والمسميات والزخرف الأدبي وأعلم أن المجتمع يستطيع أن يسجن جسد الإنسان ويكبله ، ولكن تكبيل الجسد يطلق الروح أكثر في سماء حرية أوسع ومن هذه الزاوية فقط أستطيع أن أقول شكرا لسجاني .
- يوم عاصف في حياة فان جوخ
هل يدهشك كما يدهش الآخرون أن ذاك المجتمع الذي ناصبك العداء لم يقدر فنك في حينه ولم يعترف به واصبح الآن يرفعه عاليا ويتهافت في المزادات الكبرى علي اقتناء لوحاتك بمبالغ خيالية بعد موتك ؟
قلت وأقول دائما عبر كل القنوات الفضائية ووسائل الإعلام الأخرى ومن خلال موقعي علي شبكة الإنترنت أقول : سوف يأتي يوم يقوم فيه الذين سخروا من لوحاتي بدفن وجوههم في الوحل خجلا من جرم هائل ارتكبوه بحقي وبحق قدسية فن الرسم .
الآن أيضا ما يزال ثمة نقاد يشككون بقيمة أعمالك ويعدونها كرسومات أولية غير مكتملة أو مجرد مسودات لوحات في أحسن الأحوال . ما تعليقك علي ذلك ؟
علي الرسام الحقيقي أن يفلح الأرض البكر ويترك لغيره مهمة زراعتها وقطف حصادها ، عليه أن يرسم الطريق أمام الزارع والحاصد . لقد حاربوا أعمالي لأنني لم أرسم كالآخرين ، رسمت البساطة والبشاعة والبؤس كما في لوحة ( عشاء البطاطا ) . ولم أفعل مثل غيري أي لم أرسم الجمال والغني والأناقة بحسب ما يريدون . كانت هناك مفاهيم خاطئة بان الفن هو الذي يقدم الصورة الجيدة للأشياء لكن الأشياء يا صديقي ليست في حقيقتها دائما جيدة وأنا كنت ( وأنت تعرف ذلك جيدا ) أول من غامر بفتح هذا الاتجاه الجديد والصعب ودفعت لأجل ذلك ثمنا فادحا إنما الفنان ..( يا فتحي .. يا خويا ) لا يعمل في حدود نطاق عصره فقط بل للعصور الآتية من هذا المفهوم سأروي لك سرا مهما .. تجار اللوحات في زمني كانوا دائما يقولون لي بعد أن يرفضوا شراء لوحاتي : خذ هذه اللوحات وأعد صياغتها وتجميلها ثم عد إلينا فنشتريها منك وأحيانا كنت أنهار وأرضخ تحت وطأة الحاجة إلى المال وأقوم فعلا بصنع لوحات ( جميلة ) وأنيقة وفق خرجت عن ذاتي وبأنني ارتكبت فعل الخيانة بحق فني وبحق نفسي . الفن ( كما تعلم جيدا ) هو الإبداع لكن الفن من جهة أخرى حرفة ومهنة هذا صحيح والصحيح أيضا أن هناك فرقا كبيرا بين الفنان وبين ( المعتاش ) من الفن وأنا فشلت تماما ( مثلك ) في أن أكون معتاشا وقد يكون التعويض أنى قد نجحت في أن أكون فنانا .
- أشهر لوحاته: زهور عباد الشمس
هناك نقاد يأخذون عليك إفراطك في استخدام الألوان ويقولون إن تجريد لوحات ( فان جوخ ) من ألوانها يجعلها خردة وأشلاء بالية .
إن تجريد اللوحة من ألوانها هو أشبه ما يكون عندي بتجريد جسد المرأة الجميلة من الدم .. فماذا يبقي منها بعد ذلك .. يبقي مجرد جثة عفنة .
المرأة هذا موضوع حساس ويأخذ من الهم الإبداعي الحيز الكبير والسؤال ما الموقع الذي كان للمرأة في حياتك وفي فنك ؟
المرأة هي محور الحياة والوجود وهي علي امتداد العمر كانت محور حياتي ، وهناك دائما امرأة أعشقها بكل ما في كياني من نبض وحيوية وأكون مستعدا للموت عند مذبح قدميها .
لكنك لم تكن عاشقا مخلصا ، كنت متعدد الحبيبات ولا امرأة واحدة بذاتها تركن إليها ؟
مشكلتي وربما مشكلة كل الفنانين من أمثال ( بيكاسو وغيره ) ومشكلتك أنت تحديدا مع مريم التي تقول عنها بأنه لم يخلق مثلها في البلاد .. المشكلة يا ( فتحي ) أنى أحببت المرأة في المطلق . من هنا رأيت في كل واحدة من كل نساء الدنيا امرأتي وحبيبتي ولهذا كانت فجيعتي بالمرأة ، إذ لا توجد امرأة واحدة من جميع النساء اللواتي مررن في حياتي نجحت في فهمي وفي استيعاب ذلك الحب الهائل الذي كنت أغدقه عليها . ومع كل هذا الإحباط فالمرأة أجمل وأثمن ما في الوجود .
ومثلما استدعته المخيلة هذا الصباح عبر عدة مصادر ومن خلال تراكم فيض القراءات تصورت أنه قد أنسحب منها بذات الانسياب الذي تسلل إليها مخلفا في ( طبق الرماد ) حشدا من الجثث الهامدة من أعقاب سجائره التي هي في الأصل بعض من سجائري وان سترتي الصوفية السواء الملطخة بالألوان ( الأصفر المشتعل والأحمر الدامي وأزرق السماء ) هذه السترة الملقاة في إهمال منذ أيام علي مسند أحد الكرسي في مرسمي المعلق في الدور الثالث .. تصورت ساعة معالجة هذا الحوار أنها سترته التي كان يجوب بها حقول القمح في النهارات الحارقة من صيف جنوب فرنسا فلجأت إلى فيروز مستنجدا بها ومتوحدا مع صوتها كي تلملم قدر المستطاع خيالي المبعثر في الأركان وتعيدني إلى واقعي وصوابي قبل أن يتمكن مني نزق فان جوخ وعند ذلك يبور فني وأتهم مثله بالجنون :
أنا يا عصفورة الشجن مثل عينيك بلا وطن |
واغتراب بي وبي فرح كارتحال البحر بالسفن |
أنا لا أرض ولا سكن أنا عيناك هما سكني |
[1] خلوة عش الحمامة في بنغازي : http://www.kraassi.com/esh.htm
